نتابع في خلق الإنسان...
******************************************
ثالثاً : مرحلة العلقة : (( ثمّ خلقنا النطفة علقة )).
ما إن يتم التحام النطفة بالبويضة ، وتشكيل النطفة الأمشاج ، حتى تبدأ هذه الأخيرة بالانقسام والهجرة باتجاه جوف الرحم ، فتصله في غضون ( 5-10 ) أيام من بدء التلقيح ، وهي في طور العلقة . ومن الجدير ذكره أن مصطلح العلقة ، هو مصطلح قرآني بحت ، فلماذا العلقة يا ترى .!؟
إنه مما لا شك فيه ، أنه لا يدرك روعة التصوير القرآني المعجز ، إلا من أتاح الله له رؤية تلك الكتلة من الخلايا الضعيفة ، وهي عالقة ( علوقاً ) ، في جدار الرحم بواسطة استطالات خلوية مغروسة في مخاطية الرحم ، مصداقاً لقوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم (( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، إقرأ وربك الأكرم ، الذي علّم بالقلم )) .
رابعاً : مرحلة المضغة : قال تعالى في قرآنه المعجز :بسم الله الرحمن الرحيم
- (( فخلقنا العلقة مضغةً )) المؤمنون (15)
- (( ثمّ من مضغةٍ ، مخلَّقةٍ ، وغير مخلَّقة )) الحجّ ( 5 ).
بعد أن يعلق محصول الحمل في جدار الرحم ، ويرسل باستطالاته الخلوية والدموية لجلب الغذاء له من الأم الحامل ، لاستمراره في النمو والتكاثر ، تبدأ مرحلة جديدة من مراحل التطور ، وهي مرحلة المضغة ، وذلك اعتباراً من الأسبوع الثالث للحمل ، وهي مؤلفة من مرحلتين :
1. المضغة غير المخلَّقة : وهي التي لم تتمايز خلاياها بعد ، وتمتد حتى نهاية الأسبوع الرابع ، أي نهاية الشهر الأول من الحمل .
2. المضغة المخلَّقة : ثم تبدأ مرحلة هامة جداً من عمر الجنين ، اعتباراً من الأسبوع الخامس ، أي بداية الشهر الثاني ، وهي مرحلة التخلُّق ، أو التمايز ( Differentiation ) ، حيث يبدأ تشكل الأعضاء والأجهزة ، من ثلاثة وريقات جنينية هي :
أ . الوريقة الخارجية ( Ectoderm ) : والتي تعطي :
1. النسيج العصبي .
2. الجلد وملحقاته .
ب. الوريقة المتوسّطة (Mesoderm ) : والتي تعطي :
1. الهيكل العظمي .
2. الأنسجة الضامة .
3. العضلات .
4. جهاز القلب والدوران .
5. الجهاز البولي .
ج. الوريقة الداخلية (Endoderm ) : والتي تعطي :
1. جهاز الهضم والغدد الملحقة به .
2. جهاز التنفس . .... وهكذا ...
خامساً : مرحلة نفخ الروح : قال تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم
(( ثمّ أنشأناه خلقاً آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين )) .
تنتهي عملية التخلُّق في نهاية الشهر الثالث ، وبداية الشهر الرابع ، حيث تبدأ مرحلة هامة جداً ، هي عملية نفخ الروح ، وهنا لابد أن تستوقفنا مجموعة أسئلة هامة ، ونحن نتكلّم عن عملية التمايز والتخلّق ، مثل : كيف أمكن للخلايا المضغية ( Embrioblasts ) ، المتماثلة في شكلها وتركيبها ، أن تعطي تلك الوريقات الثلاث : الخارجية ، والداخلية ، والمتوسّطة .!؟
ثم ، كيف تسنّى لتلك الوريقات نفسها ، المتماثلة أيضاً في كلّ شيء ، والتي نشأت من نسيج واحد ، أن تعطي كل تلك الأجهزة المعقّدة مثل : النسيج العصبي ( المتضمّن أنسجة متطوّرة جداً ، كمراكز الشعور والتفكير والإبداع ) ، وأنسجة القلب ، والكلى ، والهضم ، وغيرها .!؟
إنه اللغز الذي حير عقول الجهابزة ، وألباب العلماء ، والذي لا يستطيع أحد في العالم أن يجيب عنه إلا في قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم (( هو الله ، الخالق ، الباريء ، المصوّر ، له الأسماء الحسنى ، يسبّح له ما في السموات والأرض ، وهو العزيز الحكيم )) الحشر ( 24 ) .
وما دمنا نتكلّم عن التخلّق والتمايز ، فلا بأس أن نتوقف عند هذه اللقطة الإعجازيّة القرآنية ، الواردة في قوله تعالى : (( فخلقنا المضغة عظاماً ، فكسونا العظام لحماً )) ، والتي تتضمن اللطائف التالية :
1. التمايز : الذي نتكلّم عنه في طور المضغة ، وهو خلق العظام والعضلات ..إلخ
2. الترتيب : حيث العظام أولاً ، ثم العضلات ثانياً .
3. الكساء : يقول علماء التشريح ، بأن التعبير القرآني عن تغطية العضلات للعظام بلفظة كساء تعبير مدهش ورائع ، ولا توجد أية لفظة أخرى تستطيع أن تعبّر عن الواقع التشريحي بمثل هذه الروعة.! فتبارك الله أحسن الخالقين .!!!
في نهاية الشهر الثاني يكون محصول الحمل بحجم بيضة الدجاج ، ويبلغ طول الجنين من ( 2-3 ) سم بينما يبلغ وزنه حوالي ( 11 ) غ ، ثم يبدأ تكون الأعضاء شيئاً فشيئاً . وفي نهاية الشهر الثالث وبداية الشهر الرابع ، يبلغ طول الجنين حوالي ( 10 ) سم . ويبلغ وزنه حوالي ( 55 ) غ . وهنا تبدأ الأعضاء تأخذ أشكالها النهائية ، وفي هذه اللحظات يتم نفخ الروح ، وتبدأ أغلب الأجهزة والأعضاء بالعمل .
• وثمّة لفتة قرآنية إعجازية أيضاً ، وذلك في قوله تعالى عن عدّة المرأة التي يتوفّى عنها زوجها : بسم الله الرحمن الرحيم (( والذين يُتَوَفَّوْن منكم ويذرون أزواجاً ، يتربَّصن بأنفسهنَّ أربعة أشهر وعشراً )) . فهذه الآية تطلب من المرأة المسلمة التي يموت عنها زوجها ، أن تجلس بدون زواج لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام ، بعد ذلك يمكنها أن تتزوج ..! فما سرّ هذه المدة بالضبط .!؟
وفي الجواب على هذا السؤال ، نقف مرّة أخرى أمام لفتة قرآنية إعجازية باهرة من لفتات هذا القرآن المعجز ، التي تثبت بدون أدنى شك بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عند غير الله العليم الخبير .
فعلامات الحمل بالنسبة للناس التي تنزّلت عليهم هذه الآية كانت تقسم إلى قسمين رئيسيين :
1. علامات ظنيّة : وهي تشمل : انقطاع الطمث عند المرأة ، وأعراض الوحام المعروفة .
2. وعلامات يقينية : وأهمها : كبر حجم الرحم ، وبدء حركات الجنين ، وهذه الأخيرة ، هي الأهم ، وهي معروفة لكلّ النساء ، ولقد أثبت الطب الحديث بأن المدة الكافية لظهور هذه الحركات بصورة أكيدة لا لبس فيها ، هي أربعة أشهر ، والعشرة أيام المضافة هي من باب الاحتياط لمنع اختلاط الأنساب .!!! ترى فمن الذي أخبر محمّداً ( صلى الله عليه وسلم ) النبيّ الأميّ بهذه المعلومة الطبية التي ما ظهرت إلا مع نهايات القرن العشرين .!؟ إنه الله ، فتبارك الله أحسن الخالقين ...
• ولنا وقفة أخرى مع هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم .
فقد روى البخاري ومسلم ، عن أبي عبد الرحمن ، عبد الله بن مسعود ( رض ) قال : حدّثنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وهو الصادق المصدوق : (( إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويُؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقيٍّ أو سعيد )) .
وبنظرة متفحّصة إلى هذا الحديث المعجز يتبيّن لنا ما يلي :
1. الحديث صحيح ، فقد رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى .
2. هذا الحديث ، هو الحديث الصحيح الوحيد الذي يسبقه قول : الصادق المصدوق ، للدلالة على أن قائله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس أحد غيره ..
3. الحديث يمثل معجزة باهرة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ، حيث أكد الطب بعد أربعة عشر قرناً ، بأن الروح تنفخ في الجنين بعد حوالي أربعة أشهر ، أي ما يقارب مائة وعشرين يوماً ، كما ورد في الحديث بالضبط .
• وقبل أن ننهي فقرة نفخ الروح ، لا بد أن تستوقفنا لفتة قرآنية إعجازية أخرى ، تلكم هي الواردة في قوله تعالى عن الجنين بعد مرحلة المضغة : (( ثمّ أنشأناه خلقاً آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين )).
1. خلقاً آخر من الناحية المادية :
فلم يعد تلك الكتلة المقرفة من الخلايا المختلطة بالدم والأوساخ ، المتجمّعة من الدم والمني والمفرزات ، بل تحوّل إلى كائن إنساني رائع ، يحمل كل تفاصيل الكائن البشري ، من رأس وصدر وبطن وأطراف وأجهزة وحواس ...إلخ
2. وخلقاً آخر من الناحية الروحية :
فهناك فرق هائل ما بين الكتلة الهامدة التي لا حراك فيها ، وبين القلب النابض ، والروح المبثوثة ، والجنين المتحرّك ، وهذا يضفي على المرأة لحظة حدوثه نشوة وفرحة لا تقدّرها إلا النساء الحوامل..!
سادساً : القرار المكين : قال تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم
- (( ألم نخلقكم من ماء مهين ، فجعلناه في قرار مكين ، إلى قَدَرٍ معلوم ، فقَدَرنا فنعم القادرون )) المرسلات (20) . وقال سبحانه :
- (( ونُقرُّ في الأرحام ما نشاء ، إلى أجلٍ مسمَّى )) الحج (5 ) .
في هاتين الآيتين الكريمتين ، إشارة معجزة إلى حقيقتين علميّتين كبيرتين :
الأولى هي : القرار المكين . والثانية هي : القدر المعلوم .
فما حقيقة القرار المكين .!؟
نطفة صغيرة حقيرة لا تُرى بالعين المجرّدة إلا بعد تكبيرها آلاف المرّات ، أودعها الله في جوف الرحم ، وهيأ لها الظروف المناسبة حتى تكاثرت ونمت وتخلّقت ثمّ أعطت ذلك البناء الإنساني الرائع ، كل ذلك وهي تنعم بكل وسائل الأمن والراحة والاستقرار ، فتعالوا معنا لنتعرّف على مجموعة العوامل التي تحقق ذلك القرار المكين ..
1. من الناحية التشريحية :
تقع الرحم في جوف الحوض ، فتحدّها المثانة من الأمام ، والمستقيم من الخلف ، ويحيط بها جدار عظمي متين جداً ، هو من أمتن عظام الجسم ، إن لم يكن أمتنها على الإطلاق . من الأمام عظم العانة ، ومن الخلف عظما العجز والعصعص ، ومن الجانبين عظما الحرقفة .
هذا البناء العظمي المتين ، يحمي الرحم من الرضوض والصدمات الخارجية ، كما أنه في نفس الوقت، يؤمن ولادة سهلة للجنين ، ولا يعيق مروره من خلالها . كذلك يتم تثبيت الرحم في مكانها بمجموعة أربطة مرنة تتصل بهذه التركيبة العظمية المحيطة بالرحم بشكل محكم ودقيق .
2. من الناحية الهرمونية :
تسيطر على الرحم لجنة هرمونية تؤمن لها التوازن في النمو ، والتوازن في الانقباض والانبساط بشكل يدعو إلى الدهشة . فمنذ اللحظة التي يتم فيها قذف البويضة الناضجة من المبيض ، يتشكل مكانها جسم يسمى الجسم الأصفر ( Corpus lutum ) ، هذا الجسم يبقى يرقب الأحداث عن كثب ، فإذا ما حصل التلقيح بين النطفة والبويضة وتشكلت النطفة الأمشاج ، وتلقى إشارة بذلك من محصول الحمل نفسه ، فإنه يستمر في الحياة ، ويقوم بإفراز هرمون يسمى هرمون الجريبين ( Ostrogen ) ، الذي يذهب بدوره إلى الرحم ويعطيها إيعاز بضرورة الاستعداد والتهيؤ لاستقبال الضيف الجديد ، فتبدأ الرحم بالنمو والسماكة في جدارها المخاطي ، وتزداد التوعية الدموية فيه ، وتهيء فراش وثير لاستقبال العرسان الجدد .!
أما إذا لم يحصل التلقيح ، ولم يتلقّ الجسم الأصفر الإشارة المطلوبة ، فإنه لا يلبث أن يذبل ويموت ، وبالتالي لا يفرز الهرمون المطلوب .
ما إن تعشعش النطفة الأمشاج في جدار الرحم ، حتى ترسل هي الأخرى إشارة هرمونية اسمها المنمّيات التناسلية ( Gonadotrophin ) ، التي تذهب بدورها إلى المبيض لتحثه على إبقاء الجسم الأصفر فاعلاً ريثما تقوم المشيمة المقبلة بأخذ دوره الهرموني ، وفعلاً يستجيب المبيض لهذا الطلب ، ويكلّف الجسم الأصفر بالاستمرار بالحياة وإفراز هرموني الجريبين واللوتيئين (Progesteron ) ..
وهكذا ، فإن هذا التوازن الهرموني الثلاثي (Progesteron , Ostrogen ,Gonadotrophin ) يكون مسؤولاً عن إبقاء محصول الحمل ونموه ، وأي خلل يحصل في هذا التوازن الرائع قد يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها ، فإما أن يتسبب في طرد محصول الحمل قبل الأوان مسبباً الإسقاط ( Abortion ) أو الخداجة (Prematurity ) . أو يؤدي إلى عطالة في تقلصات الرحم ، مسببا تأخر خروج محصول الحمل أو ما يسمى الحمل المديد (Post maturity ) .
3. من الناحية الميكانيكية :
يشكل السائل الأمنيوسي الذي يحيط بالجنين ، والذي يقدّر بحوالي ( 600 - 1000 ) مل ، والذي يصحب الجنين طيلة فترة الحمل ، عاملاً مهماً لحفظه من الصدمات والرضوض الخارجية ، بالإضافة لكونه يخفف وزنه على الأم ، ويؤمن حركته بصورة حرّة ومستمرّة .. بعد كل ذلك ، ألا يحق لنا أن نقف بكل خشوع واحترام أمام قول الله المعجز (( فجعلناه في قرار مكين )) .!؟
ثم ما حكاية القدر المعلوم ، أو الأجل المسمّى .!؟
إن الإعجاز في الآيات الكريمات التي سبقت الإشارة إليها ، ليس في الإشارة إلى مدّة الحمل المعلومة فقط - على عظيم أهميته - ( إلى قدر معلوم ) أو ( إلى أجل مسمّى ) ..
بل في تقرير العليم الخبير ، بأن هذه المدة هي المدة المثالية للحمل الطبيعي أيضاً (( فقدرنا ، فنعم القادرون )) المرسلات ( 23 ) .
ولقد أثبت الطب فعلاً ، بأن هذه المدة التي قررها الله للحمل ، هي المدة المثالية فعلاً ، فإذا ما نزل الحمل قبل هذه المدة اعتبر خديجاً ، وكان معرّضاً للكثير من المشاكل الطبية التي قد تودي بحياته .!
أما إذا بقي في الرحم أكثر من هذه المدة ، فيعتبر الحمل مديداً ، والذي لا يخلو هو الآخر من المشاكل.!!! ترى ...فمن الذي أوعز إلى الرحم أن تحفظ الجنين هذه المدة المحدّدة ( أربعين أسبوعاً = 270-280 ) يوماً لا تزيد ولا تنقص .!؟
وكيف ارتضى جسم المرأة أن يحفظ في أحشائه جسماً غريباً يشاطره طعامه وهواءه دون أن يبادر إلى طرده ، كما هي العادة مع أي جسم غريب متطفّل .!؟
ومن الذي عطّل أجهزة المناعة في جسم المرأة حتى ترضخ لقبول هذا الضيف الثقيل .!؟
ثمّ ، ما هي الآلية بالضبط ، التي يتمُّ بموجبها إخراج الجنين في اللحظة المقدّرة لا تزيد ولا تنقص .!؟
إنها عشرات بل مئات الأسئلة ، التي حيّرت ألباب العلماء ، ودوّخت الجهابذة من الأطبّاء ، والتي لا توجد عليها إلا إجابة واحدة فقط ، رضي من رضي ، وسخط من سخط ، إنه الله العليم الخبير.!
فقدرة الله المعجزة ، هي التي تحفظ الحمل كل هذه المدة المحدّدة ، من خلال توازن هرموني مدهش ، فإذا ما دنت ساعة الفراق ، أذن الله للرحم بتقلّصات لا يصمد لها شيء ، ولا تهدأ قبل أن تقذف بالجنين خارجاً ، فيستهلُّ صارخاً من شدّة ما لاقى من الكرب ، فتبارك الله أحسن الخالقين ...!!!
سابعاً : ثمّ السبيل يسّره :
قال تعالى في كتابه الكريم : بسم الله الرحمن الرحيم
- (( قُتل الإنسان ما أكفره ، من أي شيء خلقه ، من نطفة خلقه فقدّره ، ثمّ السبيل يسّره )) الإنسان
- (( ونقرُّ في الأرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمّى ، ثمّ نخرجكم طفلاً )) الحج (5) .
بعد رحلة بديعة في جوف الرحم دامت أربعين أسبوعاً ، يعلن الباري عزّ وجلّ ، بأن هذا المخلوق الجديد قد صار مؤهلاً للحياة معتمداً على نفسه ، فيوعز للرحم في اللحظة المقرّرة ، التي لا نعرف عن كنهها شيئاً ، وتبدأ عملية المخاض ( Labor ) ، على شكل تقلّصات محسوبة بدقة متناهية ، فهي تقلصّات ذكية عاقلة منضبطة ، تؤدي في النهاية إلى قصر عنق الرحم وكبر فوهته في نفس الوقت .
وهنا أيضاً نلمس العناية الإلهية المعجزة ، فالتقلصات الرحمية تحدث بصورة محسوبة جداً (( إنا كلّ شيء خلقناه بقدَر )) فلو حدثت تقلصات قوية ومستمرة لاختنق الجنين ومات ، وكذلك لو كانت التقلصات ضعيفة وغير فعّالة لحدثت عطالة رحمية واحتُبس الجنين .
وهنا لا بد لنا مع وقفة مع مخاض السيدة مريم العذراء عليها السلام :
قال تعالى في سورة مريم : بسم الله الرحمن الرحيم
(( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ، قالت : يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً ، فناداها من تحتها ألا تحزني ، قد جعل ربّك تحتك سريّاً ، وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيّاً ، فكلي واشربي ، وقرّي عيناً )) مريم ( 23 ) . صدق الله العظيم .
ولو أمعنا النظر في هذا النص المعجز لوجدنا في كل كلمة معنى ، وفي كل حرف مغزى ، فهي آيات معجزات تقطع بعظمة الخالق ، وتؤكّد بما لا لبس فيه بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عند بشر.!
1. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة :
كل تغيير في المبنى يؤدي إلى تغيير في المعنى ، كما يقول اللغويون ، فكلمة أجاءها هي غير كلمة جاءها ، وهي تعني أن المخاض ألجأها إلى جذع النخلة من ألمه وشدّته ...
2. إلى جذع النخلة :
كل امرأة ماخض تحاول أن تبحث عن مكان تلجأ إليه ، وتستتر به ...
3. قالت يا ليتني متُّ :
وهي كلمة تقولها كل ماخض من شدّة الألم ، وخوف الفضيحة بسبب كشف العورة ، هذا بالإضافة للمدلول الخاص لهذه الكلمة عند السيدة مريم التي كان حملها وولادتها بصورة غير مألوفة .
4. تحتك سريّاً :
كل ماخض تتمنى أن يكون تحتها فراش وثير للولادة ، وأن تكون في موضع مريح من جميع النواحي.
5. وهزّي إليك بجذع النخلة :
هذا المبدأ ( مبدأ هزّ جذع النخلة ) صار مبدأً رائعاً يأخذ به الدعاة للوصول إلى أهدافهم ، لأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضّة . نعم ، إن الله كان قادراً على أن يسقط رطباً على مريم بدون هز جذع النخلة ولكنّ الله يريد أن يربّي الدعاة على ضرورة المبادرة والاعتماد على جهدهم الشخصي ، ثم يأتي عون الله وتوفيقه بعد ذلك .
6. رُطَباً جنيّاً :
لقد أثبت الطب الحديث للرطب الجني ( الناضج ) الفوائد التالية :
أ . فيه نسبة عالية من السكريات البسيطة الضرورية لعمل العضلة الرحمية ( ولهذا نعطي للماخض اليوم سكريات على شكل مغذي وريدي ) .
ب. يحتوي على مادة مقبّضة لعضلة الرحم ، وهي ضرورية لعملية الإرقاء وقطع النزف ( ونحن نعطيها اليوم للماخض على شكل مادة دوائية تسمى Methergin .
ج. فيه مادة مخفّضة لضغط الدم ، والمخاض كما هو معروف اليوم ، يترافق مع ارتفاع في ضغط الدم ، الذي قد يكون خطراً أحياناً .
د. الرطب الناضج فيه مادة ملينة للأمعاء ، وغالباً ما نضطر لتفريغ أمعاء الماخض اليوم بواسطة رحضة شرجية ( حقنة ) .
هـ. والرطب الناضج فيه مادة مهدئة ، وكم نكون مضطرين لإعطاء مهدئ على شكل مادة دوائية للسيطرة على أعصاب الماخض المتوترة .
7. فكلي واشربي :
أكل حلويات ( رطب ناضج ) + شرب سوائل ( واشربي ) هذا عين ما تحتاجه الماخض ، وأقصى ما فعله الطب الحديث أن قدم هذه المواد على شكل مغذي وريدي ( غلوكوز ووتر Glocose Water ).
8. وقرّي عيناً :
الراحة النفسية للمرأة ضرورية جدّاً لإتمام عملية الولادة ، ولذلك كثيراً ما تحتاج الماخض إلى المزيد من التشجيع ، والدعم النفسي ، والتطمين ، وقد نضطر _ كما ذكرنا _ لإعطاء بعض المهدّئات ، ولقد وفّر الله تعالى لمريم عليها السلام ، كلّ هذه الشروط الولادية المعجزة .
فأية روعة هذه .!! وأي إعجاز هذا ...!!!
وما إن يخرج الجنين إلى الحياة ، حتى تبدأ مرحلة جديدة من حياته لا تقلّ أهمية عن حياته الرحمية ، وهذا ما سنفرد له بحثاً مستقلاً في هذه الدراسة إن شاء الله ...
وبعد ... فلقد ذخر القرآن العظيم بالكثير من الآيات العلمية المعجزة ، التي تدلّ دلالة قاطعة لا لبس فيها ، على أن هذا القرآن الذي تنزّل قبل أكثر من أربعة عشر قرناً ، لا يمكن أن يكون من صنع البشر ، لأنه أكبر بكثير من مستويات البشر ، بل لا بدّ أن يكون من الله العليم الخبير ...
وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، والحمد لله ربّ العالمين ...